أخيرا نفخت أبواق اللحظة الحاسمة التي يتحدد فيها جنس ما يخفيه لها المجهول وراء ظهره من مفاجآت ...كم ذا تجرعت مرارا من مستنقعات اليأس الراكدة وكم ذا لطمت جدار قلبها المتعب عواصف التهديد و العتاب بعد طول انتظار ....فالمرأة التي لايجنى من تربة رحمها إلا البنات ، شجرة بؤس لن يشتم الآخرون رياحين السعادة إلا باجتثاثها من جذورها ورميها في دركات الضياع ....لذا كثيرا ماتفننت عجوزها في اختراع أدوات التحطيم التي أنهكت بها كاهلها وجعلتها تتمنى الرحيل الأبدي لولا فلذات كبدها الثلاثة : زهرة ، أمينة وزينب ....
حانت إذن لحظات المخاض العسيرة وتباشير قدوم الضيف الكامن في الأعماق شهورا، حاولت خديجة أن تستجمع قواها وتقاوم تيارات الأوجاع التي كادت أن تمزق أنسجة بطنها البارزة أشلاءا ، وحاولت أن تجتر أشواك الألم وتطلي وجهها الشاحب بدهان من الصبر والرضا بما هو آت ، لكن حصن الفشل المتصلب كان لها دوما بالمرصاد ، وبعد مد وجزر ، إرتمى جسمها المنهك في سيارة الإسعاف وقد ثشبثت بأحد الكراسي بكل ماتمتلك من قوة حتى بدا لأصابعها فيه أثر ولولا بضع من التردد لأطبقت عليه بأسنانها....
كانت الأعين منصبة تجاهها ، ومن ذا باستطاعته أن يلتقطها من أغوار بئر المعانات العميقة ؟ سلطان الأمومة اجتذبها إليه بحباله المتينة ، فسقطت فيه مجبرة ولن تتذوق طعما للراحة والسكينة إلا بعد أن تلمس نسمات الهواء تلك الرأس الآدمية القابعة في الظلمات الثلاث ....
وبينما كانت خديجة في حالة تتقطع لها أفئدة الحاسدين عطفا وإشفاقا ، كانت العجوز تسرح بذاكرتها إلى الوراء وانتهى بها قطار الذكريات إلى محطة العرافة '' لالا " الصيفية ، أين اجتنت أملها في أن تصير جدة لمولود ذكر إستنزف منها ذاك الأمل المنتظر فيضا من الجهد والمال لكن " من أعز من الولد إلا ولد الولد " وماذا يعني أن تحلى رقبتها المجعدة بسلسلة ذهبية ؟ فالأحرى لها أن تستبدلها بماسينعش روحها البائسة ويزرع في قيعانها المتعرجة ورود الهناء ......
أما زوج خديجة عيسى فقد اكتسحت مخيلته هو الآخر صور جميلة لطفل يجمع بين وسامة أمه وقوة والده يكون له كوسام فخر أمام الجميع وعصا يرتكز عليها عند كبره بل وريثا لإسمه وماله والحريص من بعده على أخواته .
توقفت السيارة فجأة بالغة مقصدها ،فتوقف معها سيل الأحلام الوردية إلا ذاك العذاب المتواصل ، الذي لم تتوقف دقات طبوله الصاخبة بل ظل يتزايد إلى أن صمت أذان العقل وصلبت فيه نوارس التفكير ، الألم الجوع والعطش أعلنوا عليها حربا قاسية وسلاحها الوحيد آهات تعقبها أهات....
توالت الساعات منسكبة في كف الزمان ، ينظم تدفقها عقارب الساعة المثبتة على جدار غرفة الولادة وخديجة لاتزال تغوص في معاناتها وألمها وقدتمددت المسافات تحت قدميها على أرضية جرداء غمرت زوايا أمكنتها أشباح صمت قاتل .....
كانت تتمايل بخطواتها المحبطة وقد أنهك التعب جسمها النحيف وارتشف من وجهها العابس آخر قطرة من دماء ، حتى ليخيل للناظر إليها بشعرها ال**تنائي المموج على كتفيها وذاك الكحل المترامي تحت جفنيها كهالة سوداء تظلل عينيها الواسعتين ، أنها أميرة فاتنة غدرت بها الأيام ورمتها أسيرة في إحدى شراك عنكبوت الأحزان ...، بل تحفة فنية رائعة ،موناليزا عصرية بدماء عربية أبدعها الخالق وثمن الأمومة لها عنوان . قدر على بنات حواء أن تكبس أرواحهن الخفيفة تحت وطأة المعانات لكي ينعم أبناؤهن بحلاوة الحياة.........
إرتفع مقياس درجة الألم إلى أقصاه ، فتتابعت حثالة ماتبقى بحنجرتها المبحوحة من صرخات جارفة ، حملت على إثرها إلى طاولة الولادة .......
وبينما كانت خديجة تغرق في جحيم العذاب وتصارع سعراته الحارقة ، وتتلمس أثرا إلى بحيرة الطمأنينة والإستقرار، كانت العجوز في غرفة الإنتظار مع ابنها عيسى تقبع على كرسي خشبي و كأنماهي على كومة من الجمر ، لاتثبت جثتها العريضة على حال ،متلهفة للخبر السعيد الذي سيجعلها على الرغم مما تكتنز من اللحم والشحم ، عصفورة مرفرفة في الهواء....وفجأة ، إقتحم الأذان صراخ ملائكي ، لطيف بعد آخر صرخة أطلقت عنانها بحرارة تلك المنهكة داخلا ، فتسمرت في مكانها تنتظر أن يكشف الستار وتبرز على مسامعها الحقائق ، وإذا بإحدى القابلات تشق رداء الصمت والذهول وعلى وجهها ابتسامة مشرقة :
ألف مبروك ، خديجة بخير وقد أنجبت بنوتة مثل القمر ...و...
إستوقفتها العجوز بوابل من الكلمات المنغمسة في أوحال الدناءة وراحت تعلق على الخبر الصاعقة بإنه مجرد كذب وافتراء ....أي "أن الحاجة فاطنة " قد نسفت صروح أمانيها لما اصطدمت مخيلتها الهشة بصخرة الحقيقة المرة فاختلطت أمام ناصيتها الموازين ....حاول عيسى تهدءتها لكنها انزلقت من بين يديه مقتحمة الغرفة كغوريلا ثائرة والغضب يتطاير من عينيها الجاحظتين ...
0 التعليقات:
إرسال تعليق